Saturday 14 February 2015

ضربٌ من الحب، أوالجنون... ما الفرق؟


مشهد 1:


 يعتلي أحد المجانين حاجز اسمنتي وضعته الحكومة قبل فترة لتغلق شارعنا وتمنع عبور السيارات "لأسباب أمنية"، ويبدأ بغناء، وبصوت مِلؤه النشاز، احدى أغاني ام كلثوم، وهو يلوح بكوب الشاي البلاستيكي بيده، يحسبه منديل.
يجلس الخبّاز، الذي جُن قبل شهر، أسفل الحاجز الإسمنتي، ويستمع بإنصات، ثم يدندن بعض الكلمات التي يحفظها من الأغنية، ويسكت في حين آخر، ثم يهمهم مع الأوركسترا، -التي لا أراها، ولا اسمعها-، الموسيقا الخفية بين كل جملة وأخرى، ينضم اليه بقية عُمّال المخبز، وموظفو نقل الثلج بسوق السمك، والبقّال، والأطفال الذاهبون الى مدارسهم، وطلبة المعهد المهني سيئو السمعة، وبائع الجرائد، ذي السابعة من العمر، وفتية حارتنا، والحارة المجاورة، والمعلمون، وعُمال السكة حديد، والهاربون من السجون...
ينشب الشجار بين فتية الحارة وفتية الحارة المجاورة على المقاعد الأمامية، تتدخل قوات مكافحة الشغب، يواصل المجنون الغناء، يصيح الخبّاز المجنون: "الله!" في نشوة، يصرخ أحد العمال في الجميع آمراً إياهم بالصمت، لأنه يريد ان يسمع، تواصل الأوركسترا عزفها رغم ان الحاجز الاسمنتي ارتطم بجبل جليدي وانهار، ويطلق افراد مكافحة الشغب النار في الهواء لتفريق الشجار، يهرب الجميع، يبقى الخبّاز يدندن، والمجنون اعلى المنصة، يغني.
واخيراً، يطير كوب الشاي من يد المجنون ليقع على رأس الخبّاز، يقف الخبّاز في حماس ويصيح وهو يصفق:
 "هل رأى الحُب سكارى...
سكارى مثلنا؟!"





مشهد لا موقع له من الإعراب:


أقف وسط الشارع، وبين أنصاف البيوت وبقايا الحرائق والخليط الرمادي اللون من الحديد، والزلط، والخرسانة والطوب المذابين جميعاً.

أتنهد، فتستثير الرائحة قواعد بصيلات شعر ذراعاي عند عبورها من انفي وأصاب بالقشعريرة...
 تلك الرائحة التي اعلم انها ليست فقط رائحة الأراضي المُسقّاة بدماء الأبرياء من المقتولين، ولكنها أيضاً رائحة الكبريت والبارود والرماد النابعة من حناجر التنانين التي تنفث الكراهية، تلك الرائحة التي يدّعي الجميع الاعتياد عليها.
تحرك التنانين اجنحتها في السماء فتأتي الرياح محملة بقصائد الرثاء والهجاء والمقدمات الطللية من القصائد الجاهلية اللعينة. حين أغلق عيناي لأستمع فأني لا أسمع الألف سيمفونية التي اعتادت الرياح حملها، واعتادت اذناي عليها، ولكني أسمع الاف الصرخات والتهليلات والتكبيرات وقرع الطبول البربرية كطقوس لذبح اجمل فتيات قريتنا، التي كنت أحب، قُرباناً للرب!
أسمع دقات قلبي، وقلوب الآخرين، المتسارعة بفعل الأدرينالين الذي، كبقية هرمونات الحزن والاشمئزاز التي اصبح جسدي لا يفرز سواها، ادمنت عليه تماماً كما ادمن الجميع على القهوة والسجائر.
نعم، الجميع، كل من حولي يتعاطون القهوة والسجائر، ويصابون بالصداع إن لم يفعلوا، كل من حولي هم زُمر من الفرسان والمحاربين القُدامى والهاربين من المعارك المصابين بالإحباط والهبوط الحاد في الضغط والسكري... فهم يتناولون القهوة والسجائر ويجلسون على المقاهي وأرصفة الطرقات ليمشطوها بناظرهم فقط ليصيحوا: "انت السبب! انت لم تقتل التنين!" على اول المارة.


من المذكرة: الرابع عشر من فبراير في أحد الأعوام:

قرأ صديقي ان الأحمر لا يستثير الثيران، وأنها اسطورة.
صديقي الحزين جداً، والثري جداً، الغاضب من كل شيء، والذي يعاني من مشاكل في الثقة، قرر التأكد مما يقرأ بنفسه.
الكل يرتدي الأحمر اليوم، لا اعلم لماذا، او ادّعي ذلك، وانا اعلم جيداً ان الأحمر قد لا يستثير الثيران، ولكنه يستثير صديقي.
صديقي الغني جداً هو ابن جزار حارتنا. وهو غني جداً، ويأكل اللحم كل يوم، ويزداد وزنه في كل يوم، ولكن ذلك لم يمنع فتية حارتنا من معايرته بكونه ابن جزار عندما كنا – لا زلنا – صغاراً.
واليوم كل فتية حارتنا يرتدون الأحمر، والأحمر، الذي اعتاد صديقي على رؤيته في مكان عمل أبيه، يستثيره، جداً.
يدعوني صديقي لأشهد على تجربة عملية بمناسبة وقوع يوم الفالنتاين واليوم العالمي للهروب من الثيران في يوم واحد.
 صديقي يعلم بأني انفصلت عن حبيبتي، ابنة جيرانهم، الأسبوع الماضي، وانا اعلم ان صديقي سعيد لأنني انفصلت عنها، وهي تعلم جيداً ان صديقي دعاني اليوم ليدّعي تضامنه معي، وترتدي الأحمر، وانا لا ارتدي الأحمر، وادّعي بأني لا اعلم شيئاً.
والد صديقي الجزار منشغل بالشرب والغناء والاحتفال بالحب، وصديقي سرق مفتاح الحظيرة، واطلق الثيران في الحارة، العشرة ثيران، التي يتفاخر بها والد صديقي في ذات اللحظة في احد المجالس.
تستثير الثيران أطفال الحارة، فيرجموها بالأحجار، فتستثير الأحجار ثيران الحارة ويجرون وراء الأطفال، يضحك الأطفال وهم يلعبون المطاردة مع الثيران، فتية الحارة، الكبار، منشغلون بإهداء الورود الى حبيباتهم ولا ينقذون الأطفال، اخوتهم الصغار، الذين استثارتهم الثيران واثاروها.
يضحك صديقي ويقول: ثيران ابي لا تعبأ بالأحمر!
يخرج والد صديقي مذهولاً من اختفاء ثيرانه!
تراقبنا ابنة جيران صديقي من النافذة وهي ترتدي الأحمر، يلمحها صديقي، ويغمز لها رافعاً ابهامه -دلالة على النجاح- ادعي بأني لا أعلم، وابتسم انا لصديقي المنشغل بالابتسام لحبيبتي السابقة.