Thursday 25 June 2015

شماعة: وماذا بعد؟


"النهاية."
انتهى تدافع الحروف، تزاحمها على السطور، توقفت ركلاتها المستمرة لعقبيه، لم يعد شيئا يرغمه على التقدم... لم يكن هناك مجالاً للتقدم على اية حال.
ما أسوأ ما قد يحدث؟ الموت؟ ابداً.
ما أحلى الموت مقارنة بهذا المصير، أسوأ ما قد يحدث هو ان تعلق.
ان تنتهي قصتك، ان تنتهي الرواية التي كنت بطلها، وتنتهي أصوات ازرار الآلة الكاتبة التي كانت تفاجئك حرفاُ تلو الآخر، واصوات همهمة القراء، وتتوقف الاحداث عن الحدوث وينطبق الغلاف الأخير على الورقة البيضاء الأخيرة هو أسوأ ما قد يحدث.
ربما كان مصيره أفضل قليلاُ إن مات اثناء الرواية، ولكنه عاش طويلاً جداً. وإن عشت طويلاً جدا لتشهد "النهاية"، فما اتعسك، وانا اقترح عليك ان تبدأ بندب حظك، واعلم انه لا شيء اجدر بأن تندب حظك لأجله.
وصلت به "النهاية" الى الحافة، لم يسقط تماما، ولكنه يقف هناك، لا مجال له للعودة لأن الحروف وراءه تشكل طريقاً وعرة جدا، وان استطاع العبور على اغلبها، فإن الالف واللام والطاء بعصاتها يقفون له بالمرصاد، جدران وراء جدران تسبقها جدران، وهو يعلم جيداً انه سيء في القفز، وان الهاويات بين الالف وبقية الأحرف واسعة جدا ولن يستطيع ان يقفز عبرها...
هو يخاف السقوط.
هو يخاف كل شيء.
انتهت روايته وتجرد منه لفظ البطل وأصبح لا شيء سوى نفسه: جبان.
لم يعد شيئا سوى لا شيء، لم يعد شيئاً ابدا.
وقف على الحافة، عَلِمَ ان الهوة امامه تنتهي بالحضيض، وان لا خيار امامه سوى السقوط، ولكنه سيأجل ذلك قدر ما استطاع.
أراد الجلوس ولكن فكرة ان تهوي قدماه الى الأسفل معطية الجاذبية الأرضية فرصة لسحب رجليه مُعجلة بسقوطه ارعبته فظل واقفاً.
سيقف هنا حتى تنهار الأرض تحت قدميه، ذلك الحل الوحيد. هو سيسقط، ولكنه سيقسط فقط حينما يريده الله ان يسقط.
بياض الورقة الناصع يؤلم عيناه، يشعر بالحنين للسماء الزرقاء، او المعتمة، وهو لا يريد في اللحظة سوى بعض النجوم، وبعض من هي...
كان يحملها بين اضلعه، تذكر ذلك، النشوة غلبت الرعب للحظة، والتفكير، ادخل يده في جيبه، اخرج المفتاح وفتح باب قفصه الصدري، واخرجها.
هي لم تنطق، كانت تكره ان تكون سجينته، ستعاقبه بالصمت، ولن تدعه يملأ جفنيه بسحرها. هي تعلم سحرها، وتخبر جيداً قدرات كلماتها على اسعاده، هي تعلم ايضاً ما يحدث له الآن، وهي غاضبة جدا، تركها في صدره المهمل ولم يعتني بها، لم يعطيها الاهتمام الذي تستحق، ستجعله يندم.
تحركت هي بكل خفة، رفعت قدمها عن الأرض: خطوة. وضعت قدمها اليمنى، ورفعت اليسرى: خطوة. كررتها عدة مرات، صارت خلفه تماما. تبدو أقدامه غبية امام اقدامها، تشعر قدماه بالإحراج من نفسيهما، يريد الدوران، يعلم ان لا قدرة له على الدوران، تعلم ان لا قدرة له على الدوران.
يعلم انها عنيدة، وأنها لن تأتي امامه، وأنها لن تنطق.
لا فائدة، سينهي هذه الفوضى وسينتهي.
خرجت الحروف من فمه متقطعة، كانت الكلمات محتارة الآن، خصوصا وان "النهاية" تقف خلفها، وهي تعلم ان لا مكان لها بعد النهاية.
قال:
إ
د
ف
ع
ي
ن
ي.

ارتسمت ابتسامة سادية على وجهها أرسلت قشعريرة في جسده.

ل
ن

ت
ف
ع
ل

لم يكن خطئاً واحداً الذي ارسله هنا، بل مئات. خطؤه الأكبر كان ايمانه بالنهاية السعيدة، وثقته العمياء بالكاتب. لم  يكن يعلم ان الكاتب كان يمقته، وانه أعطاه كل ما أعطاه فقط ليأخذه لاحقاً. لم يكن يعلم انه ليس سوى وسيلة لتفريغ موجة من العدوانية اجتاحت الكاتب في يوم سيء.
كل شيء ضده، والله هنا لن يقول للأرض ان تنهار، ولن تدفعه هي، ولن يحدث شيء، بعد النهاية كل شيء ساكن، وسيقف كل شيء هنا، يسخر من وجوده.
لم يكن ابداً بطلاً.
لن يكون بطلاً.
هو يريد القفز، ولكن الكاتب جعل فوبياه الوحيدة هي المرتفعات.
امال رأسه وارغم بؤبؤا عيناه على النظر الى داخل الحفرة، شعر بالدوار، فقد توازنه، وسقط.

والنهاية هنا ارغمت السكون على السقوط...

وظل يسقط.

"البداية."